مآلات الحرب على غزة- مستقبل الوجود "الإسرائيلي" في مهب الريح

المؤلف: د. سعيد الحاج11.23.2025
مآلات الحرب على غزة- مستقبل الوجود "الإسرائيلي" في مهب الريح

مع استمرار الاعتداء "الإسرائيلي" الشرس على قطاع غزة المحاصر لأكثر من ثمانين يومًا، ورغم كل الصعاب والتحديات، يظهر الصمود الأسطوري لأهالي القطاع، والبأس الشديد للمقاومة الفلسطينية الباسلة، ومع مرور الوقت تتكشف زوايا جديدة، وحسابات إضافية دقيقة لهذه الحرب المدمرة وتداعياتها الخطيرة، ومن أهم هذه الزوايا والحسابات ما يتعلق بكيان الاحتلال الغاصب، وعلى وجه الخصوص ما يرتبط بمستقبل وجوده المشؤوم في المنطقة.

معركة فاصلة ومصيرية

تكمن معضلة جوهرية وأساسية في تقييم الحرب الشعواء الحالية على قطاع غزة، وهذه المعضلة تنبع من كون هذه الحرب تختلف بصورة جوهرية عن كل المواجهات السابقة التي شهدتها المنطقة، وبالتالي ينعدم وجود أي نموذج أو مثال تاريخي سابق يمكن الاستناد إليه أو الاعتماد عليه في عملية التقييم الدقيق والاستشراف المستقبلي الصحيح.

على الرغم من أن دولة الاحتلال الغاشم قد شنت بالفعل عدة حروب شرسة وغارات عدوانية على القطاع المنكوب في الأعوام 2008 – 2009، و2012 و2014، وعلى الرغم من أن المقاومة الفلسطينية الشجاعة قد بادرت إلى مواجهة باسلة أخرى في عام 2021 (معركة سيف القدس)، فإن الاختلافات العميقة والجذرية بين كل ما سبق من مواجهات وبين حرب "طوفان الأقصى" الحالية هي اختلافات جمة وكبيرة ولا يمكن تجاهلها.

في طليعة هذه الاختلافات الجوهرية يبرز "شكل المعركة" نفسه، حيث اتخذت المعركة شكل مبادرة هجومية في ظاهرها – ذات هدف دفاعي استراتيجي في جوهرها – من قبل كتائب القسام الأبية، وباستخدام أسلحة وأدوات قتالية وأهداف بعيدة كل البعد عن تلك المرتبطة بالمواجهات العسكرية السابقة، مع التركيز تحديدًا على فرض المعركة على "أرض العدو" المحتل.

من أبرز الاختلافات الجلية كذلك، تبرز "الوحشية المفرطة والهمجية غير المسبوقة" التي تدير بها "إسرائيل" عملياتها العسكرية الإجرامية في قطاع غزة، وتحديدًا ضد المدنيين العزل والأبرياء، وهو ما وصفه العديد من الأطراف والجهات بجرائم حرب مكتملة الأركان وجرائم إبادة جماعية موصوفة.

ولعل التشابه الملحوظ والكبير بين بعض التطورات الراهنة، والمشاهد المأساوية التي صاحبت المشروع الصهيوني آنذاك على الأراضي الفلسطينية، هو من ضمن الأسباب التي دفعت الكثيرين إلى تشبيه الحرب الحالية بنكبة عام 1948 وإطلاق اسم النكبة الثانية عليها

ومن ضمن هذه الاختلافات كذلك، تظهر أهداف العملية العسكرية، وتحديدًا البرية منها، وَفق ما هو معلن رسميًا من قبل سلطات الاحتلال، ومما يرد في بعض التصريحات والتحليلات السياسية والعسكرية المتداولة، وفي مقدمة ذلك يبرز هدف إنهاء حكم حركة حماس في القطاع، وخطط تهجير السكان قسرًا وتفريغ القطاع منهم بصورة كاملة، وإنهائِه كحالة سياسية قائمة وإعادة احتلاله عسكريًا إن أمكن ذلك.

ويعود ذلك إلى نظرة الاحتلال لهذه المعركة على أنها حرب وجودية مصيرية، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمصيره على المدى البعيد، ولذلك فهو يسعى جاهدًا لاستعادة قوة الردع من خلال إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية والمادية، وبات أكثر استعدادًا لتحمّل خسائر فادحة لم يكن ليقبل بأقل القليل منها في مواجهات سابقة.

كما أن من أهم أوجه الاختلاف الجوهرية يبرز "الموقف الغربي" الداعم بقوة للاحتلال، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، التي تنظر إلى هذه الحرب على أنها حربها هي بالوكالة، في مقابل موقف عربي – إسلامي متردد وضعيف، أقل ما يقال فيه؛ إنه عاجز عن إغاثة غزة المنكوبة، فضلًا عن نُصرتها ودعمها، بل يصل موقف بعض الأنظمة العربية حد التواطؤ والتناغم التام مع الأهداف "الإسرائيلية" الخبيثة المتعلقة بحركة حماس على وجه التحديد.

حقائق دامغة

يدفع كل ما سبق ذكره إلى التحلي بالتواضع والتأني والتحفظ الشديد في عمليات التقييم والتقدير والاستشراف فيما يخص هذه الحرب ومساراتها المحتملة ونتائجها الوخيمة ومآلاتها المستقبلية غير المؤكدة، فكل ما تم ذكره سابقًا في وصف ظروف الحرب الحالية ما هو إلا مجرد محاولة متواضعة للتفسير في سياقات عامة إلى حد كبير.

على الرغم من ذلك، لا يزال بالإمكان رصد بعض الأمور والتطورات المنطوية على أهمية بالغة وأبعاد خطيرة، وفي مقدمتها بعض الحقائق المرة المتعلقة بمشروع الكيان الصهيوني الاستيطاني منذ تأسيسه المشؤوم، وكذلك فيما يتعلق بمستقبله الضبابي في المنطقة.

إن توثيق المقاومة الفلسطينية الباسلة للمواجهات المباشرة والملحمية بين رجالها الأشاوس، وجنود الاحتلال الجبناء، يظهر بجلاء الفارق الشاسع والكبير في مستوى الشجاعة والإقدام والثبات والمعنويات العالية، بما ينعكس بصورة مباشرة وفورية على نتيجة هذه الاشتباكات والالتحامات التي لا يستفيد فيها الاحتلال من سلاح الجو المتفوق ومن تفوقه الميداني الواضح في العتاد والتسليح.

ولعل التشابه الكبير والواضح بين بعض التطورات الحالية، ووقائع المشروع الصهيوني الاستيطاني على الأراضي الفلسطينية، هو من ضمن الأسباب التي دفعت الكثيرين لتشبيه الحرب الحالية بنكبة عام 1948 وتسميتها بالنكبة الثانية، وما إلى ذلك من أوجه تشابه أخرى مأساوية.

في المقام الأول، ثمة ما يؤكد بشكل قاطع نظرة قيادات دولة الاحتلال الغاشم للشعب الفلسطيني المناضل من حيث نفي وجوده ككيان مستقل وموحد من جهة، ونفي الصفات الإنسانية النبيلة والأخلاق الحميدة عنه؛ وذلك لتبرير استهدافه المتواصل وقمعه المستمر من جهة ثانية.

ومن أبرز الأمثلة الصارخة على ذلك، تشديد الرئيس "الإسرائيلي" المتطرف إسحاق هرتسوغ على أنه "ليس هناك أبرياء في غزة"؛ لتسويغ الجرائم المروعة والفظيعة ضد المدنيين العزل، وتصريح وزير الدفاع الفاشي يوآف غالانت بأن الفلسطينيين أو المقاومين هم مجرد "حيوانات بشرية"، ويضاف إلى ذلك احتفاء الجنود والضباط المتطرفين واحتفالهم المقزز بقتل الأطفال الأبرياء، واستهداف المنازل الآمنة، فضلًا عن الدعوات التحريضية التي يطلقها بعض الإعلاميين لقتل مئات الآلاف من سكان غزة حتى يطمئنوا – هم – ويستريحوا.

وبالتأكيد فإن الحرب الحالية قد أعادت إلى الأذهان المجازر والمذابح البشعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية الإرهابية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، والتي كررها جيش الاحتلال اليوم بدم بارد غير مكترث بقانون دولي، أو انتقادات من الرأي العام العالمي، أو مناشدات من المنظمات الدولية المختلفة.

ويسري ذلك أيضًا على الحصار الجائر والتجويع الممنهج والاغتيالات الميدانية للمدنيين العزّل؛ بهدف التهجير القسري وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين، في محاولة يائسة لفرض واقع جديد في القطاع المنكوب، وكذلك في محاولة بائسة لتقليل الضغوط الخارجية المتزايدة، والادعاء الكاذب بعدم استهداف المدنيين، عكس الوقائع الدامغة والحقائق الملموسة التي لا يجادل فيها أحد.

ومن أهم ما ذكّرت به الحرب الحالية مدى اعتماد دولة الاحتلال الكبير على الدعم الخارجي السخي الذي بدا وكأنه حيوي ولا يمكنها الاستغناء عنه أو البقاء بدونه. ولسنا هنا نتحدث فقط عن الدعم السياسي والإعلامي المتواصل من قبل بعض الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، ولكن كذلك عن الدعم العسكري المباشر، بما في ذلك تصدير وبيع السلاح بمختلف أنواعه، علمًا أنها لا تخوض حربًا إقليمية واسعة النطاق، ولا تواجه عدة دول في آنٍ واحد، وإنما تشن حربًا غير متكافئة على الإطلاق ضد حركة مقاومة باسلة لا توازُنَ البتة لها من حيث العدد والعتاد والتسليح معها، فضلًا عن أن معظم الجهد العسكري الغاشم يستهدف المدنيين الأبرياء.

ويصب كل ما سبق في مدى احتياج دولة الاحتلال لبروباغندا قوية ودعاية كاذبة ومضللة تضفي عليها هالة من الأسطورة الزائفة؛ لتحمي نفسها وتبقى قائمة، من قبيل خرافات: "الجيش الذي لا يقهر"، و"الاستخبارات التي تعرف كل شيء في كل مكان"، والجندي المدجج بالسلاح والتكنولوجيا المتطورة، وغير ذلك من الأكاذيب والشائعات، بما يمنحها حالة من الردع الضمني، ويساعدها في مجال الحرب النفسية دون بذل جهد كبير في الميدان.

حرب فاصلة ووجودية

في خلاصة ما سبق ذكره، يتضح أن الاحتلال – ورغم تفوقه العسكري والاقتصادي والتقني الظاهري في المنطقة- لا يقوم بمفرده بل يحتاج باستمرار إلى دعم خارجي كبير في كل المجالات، حتى وهو يخوض حربًا شرسة ضد حركة مقاومة خبرها لعقود طويلة، وينسج حول نفسه أساطير القوة والمنعة والتفوق من باب الحماية والحرب النفسية.

وهو إلى ذلك لا يبرع إلا في قتل المدنيين وترويعهم وتهجيرهم، بينما ما زال- بعد أكثر من ثمانين يومًا من العدوان الوحشي الذي لم يقف عند أي حد- يلهث دون جدوى خلف تسجيل إنجاز ولو نسبيًا أو موهومًا أو مدّعى في مواجهة المقاومة الفلسطينية الشرسة.

بل إن توثيق المقاومة البطولية للمواجهات المباشرة بين رجالها الأبطال، وجنود الاحتلال الجبناء المهزومين يظهر الفارق الشاسع والكبير في الشجاعة والإقدام والمعنويات، بما ينعكس بشكل مباشر وفوري على نتيجة هذه الالتحامات التي لا يستفيد الاحتلال فيها من سلاح الجو المتفوق ومن تفوقه الميداني في العتاد والتسليح.

ما يعنيه ذلك بوضوح أن دولة الاحتلال يمكن هزيمتها وإلحاق الهزيمة بها، لا سيما إذا ما وُوجهت بقوة/قوى تملك الإرادة الصلبة والعزيمة الصادقة والإعداد الجيد والتخطيط المحكم لذلك. فإذا كانت مقاومة محاصَرة- وبإمكانات بسيطة جدًا، ودون دعم إقليمي أو دولي- قادرة على هذا الأداء العسكري المتميز، فيمكن حينها تخيل ما تستطيعه قوى ودول أخرى تمتلك القدرات والإمكانات اللازمة.

ومن أهم ما كشفته هذه الحرب العدوانية أن المجتمع "الإسرائيلي" ليس شعبًا بالمعنى التقليدي المتعارف عليه في الدول؛ إذ لا يجمعه – رغم الادعاءات الكاذبة – تاريخ مشترك عريق، ولا هوية واحدة موحدة، وإنما هو عبارة عن شرائح متباينة وأحيانًا متناقضة جُمعت من دول العالم المختلفة، ولم تنجح المؤسسة الحاكمة في صهرها معًا لتخرج شعبًا متجانسًا، فضلًا عن أن يكون له انتماء حقيقي وقضية عادلة تجمعه على شاكلة الفلسطينيين.

وهنا يمكن أن نضيف ما هو معروف وثابت وأعادت تأكيده الحرب الحالية من رفض المحيط العربي والإسلامي برمته لدولة الاحتلال الغاصبة، على المستوى الشعبي بشكل شبه كامل، والرسمي بشكل جزئي. وبالتالي، فالجنّة التي وُعد بها يهود العالم في فلسطين من حيث الرفاهية والأمن والاستقرار لم تعد قائمة على أرض الواقع، وقد لا تعود أبدًا، على أقل تقدير من حيث الثقة بالدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية.

وعليه، ختامًا واستخلاصًا؛ فإن الأسس الواهية التي قام عليها المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين المحتلة، لم تعد قائمة كما كانت سابقًا، حيث اختفى بعضها إلى الأبد، وتراجع بعضها الآخر بصورة ملحوظة، بينما يبقى البعض الآخر منها غير مضمون على المدى البعيد، ما يعني سقوط المشروع برمته وبقاء مستقبله المشؤوم في مهب الريح.

ولذلك، قد يكون أصدق ما قالته قيادات الاحتلال في هذه الحرب: إنها حرب وجودية فعلًا، وإن مستقبل وجود الاحتلال في المنطقة على المدى البعيد ليس مضمونًا على الإطلاق.

وعليه، يحق للفلسطينيين الأحرار أن يؤمنوا اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن التحرير الشامل لم يعد حُلمًا بعيد المنال، ولا شعارًا عاطفيًا مفرغًا من مضمونه، فضلًا عن أن يكون مستحيلًا، فقد غيّرت حرب "طوفان الأقصى" المباركة الكثير من المفاهيم والمعادلات على أرض الواقع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة